فلسفة الغرب

ديكارت

 بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

نتحدث في هذه المقالة عن فلسفة ديكارت, بمقدار ميسور وموجز, وهو معروف عند الغربيين, وأسلوبه في الفلسفة حائز لأهمية, وهو من العقليين الذين يعتمدون على العقل فقط, خلافاً للحسيين وأهل التجربة, وهو لا يعتمد على الحس, ولا يعتبر أن التجربة توصل إلى اليقين, ولأجل ذلك يعتبر أن بعض التصورات تنشأ من العقل فقط, وهذا من ذاتيات العقل, ولا أصل له في الحس والمحسوس, بل من فطريات العقل, ويقول كما أن الجسم مثلاً من خواصه الذاتية البعد, والجسم لا يتحقق إلا بالبعد, أيضاً من خواص العقل الذاتية, إدراك بعض المفاهيم, والعقل خُلق مفطوراً على هذه العقليات, وهذه العقليات ليست بعد الحس بل إنها قبل الحس, خلافاً للحكماء, لأنهم قالوا أن الذي في العقل له مرتبة ما قبل العقل, وهو الحس, حتى أُشتهر هذا القول منهم :" من فقد حساً فقد فقد علماً "

ثم يقول العقل عند الناس واحد, أي المفاهيم العقلية التي من ذاتيات العقل, عند كل الناس بمقدار متساوٍ موجود, وكل واحد من أفراد البشر يفهم هذه الأمور, ويفهمها مثل ما يفهمونها الآخرون, ويضيف على هذا ويقول:

العقل في حد ذاته لا يخطئ, بل طريقة استعمال العقل في الإستنتاج تجعله يخطئ, بمعنى كيفية استخدام العقل في إدراك الأمور تجعله يخطئ ويغلط, وإلا فالعقل بما أنه عقل لا يخطئ ولا يغلط, بل يفهم ويدرك هذه الأمور صحيحاً.

ديكارت يعتبر أن المحسوسات والتجربيات لا توصل الإنسان إلى اليقين, بل العقل والمعقولات توصله إلى اليقين, ويقول المحسوسات والتجربيات ليس لهم ثمن في عالم المعرفة إلا لأجل  العمل والأمور العملية, نعم, الإنسان في مقام فعله وعمله بحاجة ماسة إلى الحس والتجربة ولكن في إدراك الحقائق الكلية العقلية, لا يفيد الإنسان إلا العقل والمعقول, الذي هو ذاتي للعقل.

يقول : التصورات الموجودة في الذهن على ثلاثة أقسام : الفطريات, والمجعولات, والخارجيات "الحسيات", والمجعولات أي مخترعات الخيال؛

الخارجيات أي, ما يؤخذ من الخارج بالحس وهما لا اعتبار لهما لكشف الحقيقة, وأمّا الفطريات وهي من ذاتيات العقل, بمعنى هذه الفطريات والمعقولات تكون مع العقل منذ البداية, وهذه الفطريات على ثلاثة أقسام, إمّا أن تختص بأمور مادية فقط كالشكل والحركة والبعد, وإمّا أن تختص بأمور غير مادية, بل من الأمور العقلية الصرفة, مثل مفهوم العلم والجهل واليقين والشك, وإمّا ان تكون مشتركاً من هذا وذاك كمفهوم الوجود والمدة والوحدة.

ديكارت في فلسفته وخصوصاً في الإلهيات يعتمد على العقل فقط, ويعتبر الحس والتجربة فقط وسيلة ارتباط الإنسان بعالم الخارج وليس إلّا.

وأمّا العقل له شأن كبير, وقُسّم بين الناس بنحو متساوٍ, ويمكن لكل فرد من أفراد البشر أن يفهم الحقيقة, وطريق الوصول إلى الحقيقة مفتوح أمام البشر, وإذا نجد أن بعض الناس يفهمون الحقيقة دون الواقع, أي لا يفهمون الحقيقة كما هو واقع, وفي نفس الأمر, هم إتخذوا منهجاً غير صحيح, وفي الحقيقة نهجهم إلى الحقيقة كان غلطاً وخطأ, وإلا إذا اتخذ كل فرد طريقاً إلى الحقيقة فيمكنه أن يفهم الحقيقة, بما هي حقيقة, ولأجل ذلك يعتقد كل الخطأ وتمام الغلط الذي وقع بين الناس عامة وبين الفلاسفة وأصحاب الفكر خاصةً, من طريقة استعمال العقل نحو الحقيقة وليس من العقل بالذات, لأن العقل لا يخطئ بل الخطأ عارض عليه, وهذا من المنهاج والسبل, وكيفية السلوك نحو الحقيقة, وإذا كل الناس ينهجون نهجاً واحداً نحو الحقيقة, فهم كلهم يفهمون الحقيقة مثل بعض من دون أي خلاف واختلاف.

الجواهر الثلاثة

سير وسفر ديكارت الفلسفي والعقلي يبدأ من الباطن وينتهي إلى الظاهر, خلافاً لأرسطو لأن سيره كان من الظاهر إلى الباطن ومن الملك إلى الملكوت.

ولكن ديكارت يبدأ من النفس ويصل إلى الله, ومن الله يصل إلى الطبيعة والجسم. أولاً يُثبت لنفسه وجوداً, ويقول أنا موجود ثم من خلال المفاهيم الذاتية والعقل يثبت أن الله موجود, وثم من خلال حكمة الباري يثبت أن الجسم وعالم الأجسام موجود, ولأجل ذلك هو يعتقد بالجواهر الثلاثة فقط, الجوهر الأول: النفس, والجوهر الثاني: الله, والجوهر الثالث : الجسم,

وحسب رأيه لا يوجد في الوجود ما عدا هذه الجواهر الثلاثة, وكل ما نجده, إمّا يتعلّق بالجسم, وإمّا يتعلق بالنفس, وإمّا يتعلق بالله,ويقول أن كل واحد من هذه الثلاثة له خاصية منحصرة, أمّا النفس فمن خواصها الذاتية, الفكر, والشعور, والإرادة, وكل هذا بمعنى الفكر عنده(أي الشعور وأراده بمعنى الفكر) وأيضاً من خواص وجود الله : الكمال, ومن خواص الجسم: البعد والإنقسام, ويقول الجوهر الواقعي هو الله فقط.

هو بعد إثبات نفسه قال : عندي مفهوم من لامتناهي وهذا المفهوم من الحقيقة الامتناهية, وهو مفهوم واضح  بديهي, لا يمكنني أن أنكره, وهذا المفهوم كلّي عن الله, فالله موجود, وعندي مفهوم من البعد, وهذا المفهوم أيضاً بديهي ومتمايز عن غيره ولا يمكنني أن أنكره لأنه بديهي.

فتحصّل : الجسم أيضاً موجود, وسنتحدث بالتفصيل في هذه المسألة في ما بعد بإذن الله تعالى.

 اليقين

كان ديكارت يفتش عن الحقيقة ولا يعتبر أي شيء ما عدا اليقين يمكنه أن يوصله إلى الحقيقة, فقال الحس يخطئ, وكثيراً ما نجد الأخطاء في الإدراكات الحسية, والتجربة ليست إلا حساً مكرراً, وكلاهما مهمان في حياة الإنسان, ولكن في حياته الطبيعية والإجتماعية, وليس في حياته الفلسفية واليقينية, وهنا لا يمكننا أن نعتبر المفاهيم العرفية والإجتماعية, والحسية والتجربية, ذو فائدة بل لا إعتبار لهذه المفاهيم بأسرها, نعم الطريق للوصول إلى الحقيقة يجب أن يكون يقينياً, وبرهانياً ولا يدخل فيه أي شك واحتمال, وهذا مهم في حياته, وفي فلسفة ديكارت.

نعم الإنسان بما أنه إنسان لا يستقر عقلياً إلا أن يطمئن عقلياً, ولا يطمئن عقلياً إلا بعد حصول اليقين, وإذا ما زال يعيش في الشك والأوهام لا يمكنه أن يطمئن في أفكاره وعقائده وهذه نقطة قوة في فلسفة ديكارت.

هو قبل أن يكون فيلسوفاً كان حكيماً رياضياً, وكان استاذاً في العلوم الرياضية, والهندسة, والطبيعة التجربية, وحين سئله أحد أن يرى مكتبه وكتبه, أخذه إلى خلف المبنى, وأراه جسداً من العجل الذي كان مذبوحاً ومشروحاً وقال:

" هذا مكتبي وكتبي" نعم هو كان يطالع هذه العلوم وكان يمارس العلوم الجزئية, ولكن كان يريد علوماً أخرى غير هذه الجزئيات المتغيرات.

كان يريد أن يفهم الوجود كله, ويصل إلى هذه الحقيقة, ولكن يصل باليقين والإطمئنان, وهذه الأدوات الحسية والتجربية وما أشبه ذلك ما كانت توصله إلى ذلك.

تخصصه في الرياضيات جعله عقلياً أكثر مما أن يكون حسياً وتجربياً, شيئاً فشيئاً هذه الأفكار الرياضية جرته إلى الفلسفة والبرهان. نعم هذه العلوم البرهانية كالرياضيات تستقيم الفكر, وتجعل الذهن مستقيماً ولا يقبل الإستحسانات والأقوال مهما كان القائل, لا يُنظر إلى القائل بل يُنظر إلى القول, وهكذا ورد في النصوص " أنظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال"

ديكارت ما نظر إلى أفلاطون وعظمته, وما نظر إلى أرسطو ومجده, وشهرته, ولا إلى غيرهما من الحكماء السابقين, بل نظر إلى أقوالهم وأفكارهم فما وجد في هذه العلوم الفلسفية الموروثة من القدماء, ما يروي عطشه ويسمن ويغني جوعه, فلأجل ذلك, نظر إلى المنطق, وقال المنطق لا يولّد العلم ولا يوصلني إلى الحقيقة فيجب عليّ أن أنهج نهجاً حتى أصل إلى الحقيقة, ويكون هذا النهج أيضاً نهجاً واضحاً حتى يمكن لغيري من الناس أن ينهجوا نحو الحقيقة بالسهولة دون أي تعب فكري وبرهاني, بل من خلال المفاهيم الفطرية التي  هي موجودة في ذات عقل كل واحد ويمكنه أن يدركها ويصل إلى الحقيقة, المهم يجب أن يعرف كيف يستدل حتى يصل.

الشك عند ديكارت

نقطة شروع فلسفة ديكارت هو الشك قبل أن يصل إلى العقل وفطريات العقل, فقد بنى فلسفته على الشك, وهذا معروف عنه في غاية المعرفة.

قال كيف يمكنني أن أثق بمعلوماتي, وهذه المعلومات إمّا حسية, والحس لا إعتبار له لأنه يُخطئ, وإمّا عقلية, والعقل أيضاً لا إعتبار له, لأنه يحتمل فيه خلاف الواقع, وكثير من الأمور العقلية ثبُت خطئها, وكم من نقاش وحوار وكلام بين أهل العقل, وكم من نقوض وردود عليهم.

فكيف أبني على العقل وهو لا ثقة به في عالم اليقين والمعرفة اليقينية لأن اليقين لا يحصل إلا إذا كان المعلوم بديهياً عند العقل, والبديهي عنده أي البسيط, و كل مركب ينبغي أن ينتهي إلى البسيط, والمركب ليس بديهياً, بل نظرياً, وقال كيف أثق بالنظريات, وليس عندي هذه الأمور البديهية.

 ملاك البداهة

ولأجل ذلك اليقين لا يتحقق عنده إلا بالبديهيات, والبديهيات هن البسائط وهذه المسألة مهمة جداً عند ديكارت, لأن إذا سألنا عن ملاك بديهة البديهي, وقلنا لماذا البديهي, بديهي, والنظري, نظري, وما هو السر في ذلك التقسيم, هو يقول السر في ذلك البساطة, وعدم البساطة, إذا كان المعلوم بسيطاً, أي لا جزء له عقلاً, فهو أمر بديهي والعقل يفهمه بالسهولة, ولا نقاش, ولا نقار فيه, ولكن الأمر المركب هو محط الأراء, والأفكار, والأنظار, ولكل وجهة صاحبها يولّيها والمعتقد به يفسرها ويحكي عنها وبها. وأما أمر البسيط عند الجميع بسيط, والعقل عند الكل عقل واحد وهذا العقل بحد ذاته يدرك هذه المفاهيم البسيطة كمفهوم الوجود الذي لا جزء له ذهناً ولا جنس له, ولا فصل له, ولا جزءاً خارجياً له, لأن الوجود لا جزء له, لا ذهناً ولا خارجاً, ولعل الشيء في الخارج مركب, ويكون في الذهن بسيط وأمّا إذا كان في الذهن بسيط, فهو في الخارج بسيط أيضاً.

بعد تمهيد هذه المقدمة في بداهة البديهي, نرجع إلى ما كنا فيه ونقول :

ديكارت حين التفت إلى أفكاره وجد هذه الأفكار ليست ببديهية, بل كانت نظرية, وقال النظري إذا كان واحداً في المائة, يحتمل خلافه, لا ثقة به أبداً ولا ينتج النتيجة اليقينية العلمية, نعم, ممكن أن يفيد عملياً ويقدر الإنسان أن يستخدمه في حياته اليومية والعملية, ولكن الأفكار النظرية البحتة وهي الكليات, إذا جاء الإحتمال فيها, فيبطل الإستدلال بها ولأجل هذا حين وجد الأفكار عنده, أفكار نظرية وأخذها من الآخرين شك في جميع علومه.

الشك الدستوري

قال أنا أشك في كل شيء, أشك في نفسي, هل أن موجود أم لا, وأشك في عالم الخارج, هل عالم الخارج وهم وخيال, أو له حظ من الوجود, هل الله سبحانه وتعالى موجود, أم ليس بموجود, قال أنا أشك في كل شيء, حتى أشك في نفسي, لأن هذه الأمور كلها أمور نظرية مركبة, وبالتالي كل أمر نظري فهو ليس ببديهي, وكل أمر نظري فهو ليس ببسيط, والعقل لا يمكنه أن يدرك المركب بالوضوح والتمام بل يحتمل فيه الخلاف, وكل ما يحتمل فيه الخلاف, لا ثقة به ولا ثمن له في سوق اليقين, واليقين هو المطلوب.  

والإنسان لا يطلب إلا اليقين, واليقين لا يأتي بالإحتمال, ولو أن هذا الإحتمال كان برأس إبرة, اليقين هو العلم بالمعلوم مئة بالمئة, وبنحو قضية موجبة كلية, وإذا جاء أقل من القليل خلافه, نعتبر نقيضه تماماً لأن الموجبة الجزئية نقيضين لموجبة كلية, وهذا الإحتمال يهدم اليقين ويناقضه ويرفضه, فقال ديكارت : كيف أثق بوجودي ووجود غيري الذي في حولي وكل هذا أمور غير بديهية وغير يقينية, فـ " أنا " أشك في كل شيء حتى أشك في نفسي.

وطبعاً هذا الشك ليس شكاً حقيقياً كما يوضح بعد, بل شكاً دستورياً أو شكاً فرضياً, ثم ينتقل من هذا الشك, بالمشكك, فقال: أنا أشك ولكن لا أشك في شكي وأشك في المشكك, المشكك ليس ثابتاً عندي الآن ولكن الشك ثابت عندي لأن إذا شككت في شكي فعندي, الشك ثابت لأن الشك في شكٍ فهو شك, وإذا ما شككت في شكي أيضاً عندي الشك ثابت وموجود, أي إذا إعترفت بشكي, إعترفت بالشك, وإذا ما إعترفت بالشكي بل شككت في شكي أيضاً, إعترفت بالشك فظهر أن الشك موجود وقال لا يمكنني أن أشك في شكي مع أنني أشك في كل شيء ما عدا الشك, لأن الإقرار بالشك يثبت الشك, وإنكار الشك أيضاً يؤدي إلى الشك, لأن فعل الإنكار مشكوك فيه أيضاً.

على كلا الحالين الشك موجود,إذاً فاعل الشك أيضاً موجود, وفاعل الشك هو الفكر لأنه من صفات الفكر والشعور.

وإذا الفكر والشعور موجود فـ " أنا" موجود, لأن الإنسان من حيث هو مفكّر وشاعر مشكك أو ليس بمشكك, فتبين له من خلال الشك, الفكر موجود والفكر يدل على المفكّر, والمفكر أيضاً موجود, فقال : وصلت إلى اليقين واليقين هنا, اليقين بوجود نفسي, فوصل بهذه الطريقة إلى أول حجر لبناء فلسفته وأول حجر هذه البناية, هو إثبات وجود نفسه بالبرهان اليقيني, وقال لا يمكنني أن أشك في نفسي لأنني أشك في كل شيء, ولا يمكنني أن أشك في شكي, وإذا شككت في الشك فأنا الشك وإذا ما شككت في الشك فأنا شاك أيضاً, وإذا أنا شاك فأنا موجود, وهذا الشك يسميه بالشك الدستوري أي الفرضي, وليس بواقعي, والفرض بفرض الفارض, يفترضه في عالم ذهنه.

يعتبر ديكارت أن هذا الشك وصّله إلى اليقين, وهنا أخطأ خطأً كبيراً لا يُستر, وإرتكب ذنباً عظيماً فلسفياً لا يُغفر, وهذا من أوهن البيوت لأنه بُني على الشك.

كلام مع ديكارت

ونحن نقول :

أولاً قبل أن يصل ديكارت إلى اليقين وهو وجود نفسه, اعترف بيقينيات أخرى تسبق اليقينية الأولى وهي هذه :

1- هو اعترف بأصل إمتناع إجتماع النقيضين, وهذه هي أم القضايا عند الفلاسفة, وهو لم يقدر دون أن يستمد من هذا الأصل الأصيل يصل إلى اليقين بل, ما من يقين إلا ولا بد أن يٌبنى عليه, وهذه هي أبده البديهيات, وكل أمر نظري أو بديهي لا بد أن ينتهي إليه حتى نعتبره من اليقينيات.

حين قال أنا أشك, ولا يمكنني أن أشك في شكي, يعني إعترف بأصل إمتناع إجتماع النقيضين, لأن كان أمامه طريقين, إذا قال الشك في كل شيء, فالشك موجود عنده, وإذا قال أشك أيضاً في شكي, فالشك موجود عنده أيضاً. وهذا هو إعتراف بأن إجتماع النقيضين محال, لأن الشك وعدم الشك فهما نقيضان, والنقيضان لا يجتمعان, فكيف يقول أول يقين, يقين بوجود نفسي, بل نحن نقول له قبل هذا اليقين عندك, أي اليقين بوجود نفسك, كان عندك يقين بعدم إجتماع النقيضين وهذه هي ليست من البديهيات بل من الأوليات, وأبده البديهيات كما لا يخفى على أهله.

2- إشكال ثانٍ على مرامه, نقول له قبل هذا اليقين, أي اليقين بوجود نفسك, كان زائداً على ما قلنا عندك يقين آخر, وهو إعتراف بنظام العلّية والمعلولّية, وأن لكل معلول علة, وكان عندك يقيناً بأن المعلول لا يتحقق إلا بالعلّة.

حين تقول : الشك موجود فالفكر موجود, فالمفكر موجود, فالإنسان موجود, وهكذا, أنت إعترفت بيقينيات أخرى وهي أن الشك هو المعلول, ولكل معلول علّة, وعلّته ليس نفس ذاته لأن هذا يؤدي إلى الدور والتسلسل, وكلاهما يؤديان إلى إجتماع النقيضين, فعلّته الفكر والمفكر, فظهر قبل وصولك إلى يقينك الأول عندك اليقين بنظام العلية والمعلولية.

وأمور أخرى التي نتحدث بها في المطولات وليس في هذا المختصر الموجز, فكيف تقول أول يقين لي, يقين بوجود نفسي وهذا من خلال الفكر والشك.

3- نقول له, هذا الطريق من الإستدلال ليس بشيء جديد في عالم الإستدلال, بل هذا الطريق هو طريق إستدلال الآخرين من الحكماء, وهم أهل القياس, وأنت لا تريد أن تأخذ منهم شيئاً بل تشك في كل شيء, حتى في فلسفة القدماء, وتشك في المنطق وقواعد المنطق الصوري, وأنت هنا استخدمت قواعد المنطق, وما أتيتنا بشيء جديد في عالم الفلسفة واليقين.

قلت أنا أشك, وكلّ من يشك فهو مفكر, وكل من يفكر فهو موجود, وهذا القياس البسيط, أم المركب, ليس إلا قياساً إقترانياً كما هو معروف عند أهل المعرفة.

نعم هذا القياس إذا كان مؤلف من اليقينيات فهو منتج لليقين, ولكن كان هذا موجود عند القدماء من الفلاسفة, إلى عصرنا هذا, ولماذا تقول أول اليقين يقين بوجود نفسي, وهذه الأمور الموجود في مقدمة القياس, وجودات يقينية, وسبب لإنتاج اليقين وهذا من الواضحات.

ولكن هو يجيب عن هذا الإشكال, وجوابه غير مرضي عندنا, هو يقول أولاً هذا الشك شك دستوري فقط, وليس شك حقيقي, وثانياً يقول أنا ما أثبت نفسي من خلال المفاهيم والإستدلالات, بل إستدليت على نفسي دون مقدمات وأقيسة.

نقداً بلا رد

ولكن بقي هنا إشكالين مهمين على ديكارت, ولا يمكنه أن يفر إلى أي مفرّ من هذين الإشكالين عليه, وهو من فيلسوف إشراقي, وعلى هذا كل ما قاله في هذه المسألة سخيف جداً في الفلسفة, خصوصاً في الفلسفة الإسلامية, وهي هذه :

نقول له, كيف يمكن الإنسان أن يستدل على نفسه من خلال مفهوم "أنا" .

نعم وصلت إلى ما وصلت, ولكن هل مفهوم "أنا" عين حقيقة "أنا", أو لا, بل بينهما بون بيّن, إذ مفهوم "أنا", مفهوم ذهني وموطنه الذهن, و"أنا"  الخارجي الذي يأكل, ويمشي في الأسواق, له وجود خارجي ذات آثار.

المفهوم بما أنه مفهوم, كيف يوصلنا إلى الخارج بما أنه خارج, لأن مفهوم "أنا" مفهوم كلّي و "أنا"  الخارجي موجود شخصي, والكلّي بما أنه في الذهن غير الشخص, بما أنه في الخارج, هذا شيء وذاك شيء آخر تماماً, هذا شخص, ومتشخص بالوجود وذاك مفهوم, وكلّي في الذهن, وهذا المفهوم الكلّي أفراده موجود في أذهان الآدميين, وليس هو بما أنه مفهوم عين الشخص الخارجي المتشخص بالوجود. وأيضاً مفهوم "أنا"  بالحمل الأولى مفهوم "أنا" , وأما مفهوم "أنا"  بالحمل الشايع "هو" وليس "أنا" , و"هو" غائب وليس بحاضر, إذاً مفهوم "أنا"  في الحقيقة "هو" , وليس "أنا"  و"أنا"  في الحقيقة حاضر وليس بغائب, والغائب غير الحاضر تماماً فكيف تستدل من الغائب على الحاضر وتقول ذاك الغائب فهو عين الحاضر, لأجل ذلك نقول لديكارت ومن معه في فكره, هذا الطريق ليس طريقاً لليقين بل طريق ضلالة وضياع, والطريق السليم والمستقيم والمستبين على وجود النفس هو علم حضوري وليس علم حصولي كما توهم.  

أساساً لا يمكننا من خلال الفكر والبرهان أن نستدل على وجود أنفسنا بل نحن عالمون بحقيقية ذاتنا من خلال علم النفس بالنفس بالشهود والحضور, كما يقول إبن سينا وهو قبل ديكارت بقرون, أن معرفة الإنسان بنفسه ليس من خلال فكره وفعله, أي معرفة الإنسان بنفسه, معرفة حضورية, وليست معرفة حصولية المفهومية, وهذا مهم جداً, الإنسان عالم بذاته, بنفس ذاته, أي المعلوم وهو شخص الإنسان عين العالم وهو شخص الإنسان أيضاً.

في المعرفة الحضورية, العلم والعالم والمعلوم شيء واحد, وهذه المعرفة أساس جميع المعارف البشرية, ولولا هذا العلم الحضوري للإنسان, لا يمكنه أن يعلم شيئاً حصولياً, لأن حصول كل صورة علمية أيضاً حاضرة عند النفس, والنفس عالمة بها, وهي معلومة بالذات, ومن خلالها تعلم الخارج, وهو معلوم بالعرض.

نعم, إبن سينا قبل الكل, قال هذا ولا يسبقه أحد من الفلاسفة, والإستدلال  شيخ الإشراق أيضاً مُتخذّ منه, إبن سينا يقول أنه مستحيل للإنسان أن يتعرف على نفسه من خلال فكره أو فعله والإنسان قبل فكره وشكه أدرك نفسه, بذات نفسه, حين تقول أنا أفكر فـ "أنا" موجود, قبل الفكر أنت وجدت نفسك وسبب الفكر والشك "أنت", و"أنت" علّة, فكيف ممكن للإنسان أن يشك في العلة ويكون متيقناً في المعلول وهذا مستحيل, والعلة قبل المعلول علماً وعيناً.

وهم وتنبيه   

" ولعلّك تقول" إنما أثبت ذاتي بوسط من فعلي إذن لك فعل تثبته في الفرض المذكور, أو حركة, أو غير ذلك, ففي إعتبارنا الغرض المذكور جعلناك بمعزل من ذلك.

وأمّا بحسب الأمر الأعمّ, فإن فعلك إن أثبته " فعلاً مطلقاً " فيجب أن تثبت منه فاعلاً مطلقاً, لا خاصاً هو ذاتك بعينها. وإن أثبته " فعلاً لك" من حيث هو فعلك, فهو مثبت في الفهم قبله. ولا أقل من أن يكون معه, لا به. فذاتك مثبتة لا به " (1)

عند إبن سينا, علم النفس بالنفس, علم حضوري وفي هذا العلم يعتقد هو بإتحاد بين العالم والمعلوم, ويقول مستحيل للإنسان أن يعرف ذاته بغير ذاته, أي بفكره أو بفعل من أفعال ذاته, يقول إذاً نستدل من فعل النفس على النفس, إمّا هذا الفعل يكون فعلاً مطلقاً, وإمّا أن يكون هذا الفعل فعلاً خاصاً, أي فعلاً منسوباً إلى النفس ومضافاً بها, في فرض الأول من خلال الفعل المطلق

1- الإشارات والتنبيهات, النمط الثالث           

لا يمكننا أن نستدل على فاعل خاص, بل فعل مطلق, يدل على فاعل مطلق, ونحن نريد أن نثبت فاعلاً خاصاً, وهو النفس وإذاً نستدل من خلال الفعل الخاص إلى وجود النفس ففعل الخاص لا يتحقق إلا بعد النفس لأنه معلول بالنسبة إلى النفس, وأيضاً فعل النفس أي شأن من شؤون النفس وهو موجود بوجود النفس, فظهر أن الإنسان يجد نفسه قبل فعله, ويجد المضاف إليه قبل المضاف, ويجد النفس قبل الفكر, ولا يمكنه أن يكون غافلاً عن ذاته, ثم يشعر بذاته بفعل ذاته, وهذا البرهان بعينه موجود في الحكمة المتعالية خصوصاً بعد التأمل في العلية, ونجد المعلول شأن العلة وليس المعلول له وجود والعلة لها وجود, ووجود المعلول بعد وجود العلة لا ببعدية غير ذاتية, بل العلة قبل المعلول ذاتاً والمعلول عين الربط بالعلة وليس بشيء ثبت له الربط.

فتبيّن من ذلك, أن فكر الإنسان أو فعله عين الربط بذات الإنسان والذات أي النفس الناطقة البشرية, عين المربوط إليها وعين الإستقلال وفعلها وفكرها ليست منفصلة عنها, بل فانية فيها كفناء الشأن في ذي شأن, والنفس في حد ذاتها عين قواها وأفعالها كما هو معروف في الحكمة المتعالية.

 

النفس في وحدتها كل القوى                 وفعلها في فعلها قد إنطوى

 

لأجل ذلك لا يمكننا أن نشك في العلة, ونتيقن بالمعلول ومن خلال المعلول نستدل على وجود العلّة, هذا نباءً على فلسفة الملا صدرا.

إذاً في الفلسفة الإسلامية هذه الطريقة الفلسفية مخدوشة جداً, ولا يعبوا بها, ولا إعتبار لهذا الإستدلال الذي هو بَنى فلسفته عليه, وعليه ما عليه.

إثبات الواجب

ديكارت بعد أن أثبت نفسه, واعتقد بأنه موجود, ووجد نفسه جوهر, أي وجوده في نفسها لنفسها, وليس وجودها في نفسها لغيرها, ووجد هذه النفس وجودها وجود إدراكي, وذات شعور, وتُدرك الأمور, وهذه الإدراكات فطرية بالنسبة إليها أي من ذاتها التعقل, والتفكر, وليس خارج عن ذاتها بل هي في حد ذاتها شاعرة درّاكة, ثم من الأمور الإدراكية شعور بذات كاملة وغير متناهية, أي معرفة بالنسبة إلى ذات الباري تعالى, قال أنا أدرك ذاتاً غير متناهية, وأدرك هذا الشعور كامل, وكمال الغير محدود, ثم إلتفت وقال هذا الشعور من ذات غير متناه وكامل, ليس مني, لأني أجد نفسي ناقص ولا يمكنني أن أكون خالق هذا التصور الغير متناه, فظهر له هذا الإدراك من ذات غير متناهية, نفسه من ذات غير متناهية في القوة والفعلية والكمال, لأنها مفيضة هذه الصور الإدراكية, لأنها كاملة من جميع الجهات, وإذ هو(ديكارت) لا يفيض هذه الصور الإدراكية فهو ناقص, وغيره يكون أكمل منه, فغيره غير متناه, ولكن لأنه غير متناه, لا يوجد غيره بل هو غير متناه في الشدة والقوة والكمال, ومن كماله أن لا يتركني حتى أبقى جاهلاً به فجعلني عالماً به, وعارفاً به, وهذا من كماله وشدة فعليته وفاعليته سبحانه وتعالى.

هذا البرهان الذي وصل إليه ديكارت بعد أن أثبت وجوده, لبيان إثبات الواجب تعالى, قد نطق به قبله, حكيم إسمه" أنسلم", وبرهانه معروف ببرهان وجودي, وأحياناً يظنون أن هذا البرهان هو نفسه برهان الصديقين الذي قال به الملا صدرا, ولكن أين هذا من ذاك, برهان أنسلم معروف في فلسفة الغرب وأتى به ديكارت بتقرير آخر ومقدمات أُخر كإثبات نفسه أولاً وفطريات العقل ثانياً, والتصور من ذات الكامل ثالثاً.

أنسلم كان يقول, عندي وعند أي شخص أخر حتى الشخص السفيه, يوجد تصور من ذات كاملة التي لا أكمل منها, ولا أعظم منها, وهذا الذات الكاملة العظيمة, حتماً موجودة بل لا ريب في وجوده لأن في فرض عدم وجودها, فهي ليست بكاملة, بل هي ناقصة, الذي موجود فهو أكمل منها, أي نحن نتصور ذات كاملة وموجودة في الخارج, وهذا يكون أكمل من الذات التي وجودها في الذهن فقط, أي الذي فرضناه كاملاً فليس بكامل, فظهر وتبين عندنا أن يوجد تصور من ذات, وهي في غاية العظمة والجلال والجبروت, وهي أعظم تصور عندنا, وهذا يجب أن يكون موجوداً وإلا خلف أي الذي فرضناه كاملاً فليس بكامل. أنسلم ومن تبعه كديكارت, إعتقدوا هذا البرهان, يكفي في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى.

ديكارت يقول :

إذاً نحن نتصور في الذهن, تصوراً من ذات كامل ووجود بالنسبة إليه ضروري, أي تصور هذه الحقيقة في حد ذاتها تصور وجودها, أي وجودها عين تصورها, يعني إذا تصورنا ذاتاً كاملةً, وما تصورنا وجودها, في الحقيقة نحن ما تصورنا الذات الكاملة, ويقول وجود بالنسبة إلى هذا التصور من ذات كاملة مثل وجود الوادي بالنسبة إلى الجبل, ومثل وجود زوايا المثلث بالنسبة إلى ماهية المثلث.

هل يمكن لأحد أن يتصور الجبل, ولا يتصور الوادي, أو تصور الوادي في حد ذاته تصور الجبل, وتصور الجبل بحد ذاته تصور الوادي, بين الذات الكاملة والوجود هكذا اللزوم, موجود, ومثل تصور المثلث وزواياه الثلاث, المثلث بما أنه مثلث لا يتحقق إلا بوجود زواياه الثلاث, وهكذا تصورنا من ذات كاملة, عين تصورنا عن وجود هذه الذات الكاملة .

كلام كانت

كانت لا يقبل بتاتاً بأن يكون هذا البرهان, برهاناً لإثبات الباري تعالى.

يقول صرف التصور من ذات كاملة غير متناهية, لا يؤدي إلى وجود هذه الذات في الخارج, كما أن تصور الوادي, لا يؤدي إلى وجود الجبل, نعم إذا تحقق الجبل في الخارج, سيتحقق معه الوادي, وهكذا في الوجود الباري, نقول ثبوت الكمال للذات الكاملة, يكون بعد إحراز وجودها في الخارج, نحن لا ننكر وجود ذات الكاملة في الخارج, ولكن نقول تصوره لا يلزم وجوده.

برهان الصدّيقين

أسدّ البراهين وأخصرها, وأمتنها في إثبات الواجب, هو برهان الصديقين الذين يستدلّون به, عليه تعالى, ولا يعتمدون في البرهان عليه تعالى, على غيره تعالى, بل من نفس الوجود, الموجود في متن الأعيان, وليس وجود الذهني, الإعتباري. يستشهدون على وجوب وجوده تعالى بالضرورة الأزلية, وهذه الضرورة تختّص بالواجب فقط, وهذا البرهان يكون من أهم البراهين التي قامت به الإلهيات بالمعنى الأخص, أي إثبات الواجب وصفاته العليا, وأسمائه الحسنى.

وأوّل من نطق بهذه التسمية لهذا البرهان هو إبن سينا في كتابه "الإشارات " ولكن صدر المتألهين ما رضي بما قال إبن سينا في تقرير هذا البرهان, ثم أسس هذا البرهان على أساس قاعده أصالة الوجود, وبساطة الوجود, وتشكيكه الخاصيّ.

تقريره وتوضيحه بحاجة إلى تفصيل أكثر, وأمّا لا يخفى علينا أنّ برهان ديكارت, وأيضاً أنسلم غير برهان الصديقين الصدرائي, ومن تبعه, تماماً, وممكن فقط أن يشتركوا في التسمية واللفظ, وأمّا المعنى هنا غير ما ورد هناك أي الفلسفة الوجودية لأنسلم وأيضاً لديكارت.

 إثبات الجسم

ديكارت بعد أن أثبت النفس, وإثبات وجود الله سبحانه وتعالى, أثبت وجود الجسم وعالم المادة والحركة. قال عندي مفهوم من البعد, وأفهم البعد بشكل واضح ومتمايز, وأفهم أن البعد ينقسم إلى أقسام لا متناهية, وهذا المفهوم من البعد, وقبول القسمة بالنسبة إليه, مفهوم بديهي .

ولأن ربي وهو الحكيم وهو الكمال الغير متناه, لا يمكن أن يتركني, ولا يهديني إلى الحق ومستحيل أن يضلني فلهذا المفهوم له مصداق في الخارج والجسم والبعد موجود في الواقع.

إتحاد النفس والبدن

في فلسفة ديكارت النفس الإنسانية مجردة عن الجسم وعوارضه, وأمّا النفس الحيوانية والنباتية, فهما غير مجردتان عن الجسم, وأيضاً النفس الإنسانية غير بدن الإنسان وجسمه تماماً. النفس شيء, والبدن شيء آخر, وأمّا في فلسفة الملا صدرا البدن مرتبة نازلة من النفس وإرتباطهم مع بعض كإرتباط المادة بالصورة, وأدق من هذا, وهذا الموضوع بحاجة إلى تحقيق رشيق, ومداقة عميقة, وتفسير النفس بأنها كمال أوّل لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة, سيساعدنا إلى فهم الموضوع شيئاً ما, وأما ديكارت يعتقد بأن جوهر النفس غير جوهر الجسم, وهنا يطرح إشكالية مهمة وهي : كيف جوهران متمايزان بتمام الذوات, إتحدوا مع بعض ونحن نشعر بالإتحاد بينهما, وهذه العويصة لا حل لها إلا في فلسفة الملا صدرا رضوان الله تعالى عليه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.